كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَأَخْبَرَتْ بِوُضُوئِهِ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْمَفْرُوضِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا فِيهِ لَفَعَلَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَجْهَ مَا وَاجَهَكَ مِنْ الْإِنْسَانِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ لِأَنَّهَا تُوَاجِهُ الْمُقَابِلَ لَهُ غَيْرَ مُغَطَّاةٍ فِي الْأَكْثَرِ كَسَائِرِ الْوَجْهِ؛ وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: خَرَجَ وَجْهُهُ، إذَا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ؛ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ اللِّحْيَةُ مِنْ الْوَجْهِ فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ ذَلِكَ وُجُوبَ غَسْلِهَا؛ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ وَإِنَّمَا الْوَجْهُ مَا وَاجَهَك مِنْ بَشَرَتِهِ دُونَ الشَّعْرِ النَّابِتِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَتْ الْبَشَرَةُ ظَاهِرَةً دُونَهُ.
وَلِمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ: نَبَاتُ الشَّعْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبَشَرَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ، كَمَا أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مِنْ الرَّأْسِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ إبْلَاغِ الْمَاءِ بَشَرَتَهُ كَانَ مَاسِحًا عَلَى الرَّأْسِ وَفَاعِلًا لِمُقْتَضَى الْآيَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَذَلِكَ نَبَاتُ الشَّعْرِ عَلَى الْوَجْهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ.
وَلِمَنْ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ يُوجَدُ مَعَ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِبِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَشَعْرُ اللِّحْيَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُ فِي حَالِ الْوِلَادَةِ وَإِنَّمَا نَبَتَ بَعْدَهَا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَجْهِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فِي غَسْلِ اللِّحْيَةِ وَتَخْلِيلِهَا وَمَسْحِهَا، فَرَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: (رَأَيْت الْقَاسِمَ وَمُجَاهِدًا وَعَطَاءً وَالشَّعْبِيَّ يَمْسَحُونَ لِحَاهُمْ) وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ.
وَرَوَى حَرِيزٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (رَأَيْته تَوَضَّأَ وَلَمْ أَرَهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ).
وَقَالَ يُونُسُ: (رَأَيْت أَبَا جَعْفَرٍ لَا يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ).
فَلَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ غَسْلَ اللِّحْيَةِ وَاجِبًا.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَبُلُّ أُصُولَ شَعْرِ لِحْيَتِهِ وَيُغَلْغِلُ بِيَدَيْهِ فِي أُصُولِ شَعْرِهَا حَتَّى يَكْثُرَ الْقَطْرُ مِنْهَا)، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ رُوِيَ عَنْهُمْ غَسْلُ اللِّحْيَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ وَاجِبًا كَغَسْلِ الْوَجْهِ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ مُتَقَصِّيًا فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ، كَانَ يُدْخِلُ الْمَاءَ عَيْنَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِحْبَابًا لَا إيجَابًا.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي أَنَّ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ»، وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي» وَرَوَى عُثْمَانُ وَعَمَّارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ خَلَّلَ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ».
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «وَضَّأْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا، فَرَأَيْتُهُ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ مِشْطٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ أَخْبَارٌ أُخَرُ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ؛ مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ وَغَيْرِهِمْ، كُلُّهُمْ ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَذْكُرُوا تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ فِيهِ.
وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ وَلَا غَسْلُهَا بِالْآيَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ مَا وَاجَهَك مِنْهُ، وَبَاطِنُ اللِّحْيَةِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ كَدَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ لَمَّا لَمْ يَكُونَا مِنْ الْوَجْهِ لَمْ يَلْزَمْ تَطْهِيرُهُمَا فِي الْوُضُوءِ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ؛ فَإِنْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْلِيلُهَا أَوْ غَسْلُهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِحْبَابًا لَا إيجَابًا كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهَا أَوْ تَخْلِيلِهَا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَزِيدَ فِي الْآيَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَجَمِيعُ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ التَّخْلِيلِ إنَّمَا هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِهَا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّخْلِيلَ لَيْسَ بِغَسْلٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالْآيَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّخْلِيلُ ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَهُ إلَى التَّخْلِيلِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ وَمَسْحِهَا، فَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ فِي الْوُضُوءِ فَقَالَ: (لَا يُخَلِّلُهَا وَيُجْزِيهِ أَنْ يُمِرَّ بِيَدِهِ عَلَى ظَاهِرِهَا) قَالَ: فَإِنَّمَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ مِنْهَا الظَّاهِرُ وَلَيْسَ تَخْلِيلُ الشَّعْرِ مِنْ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ؛ وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (وَأَنَا أُخَلِّلُ).
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ: (يَمْسَحُ مَا ظَهَرَ مِنْ اللِّحْيَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَرِيضَةً، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ إنْ صَلَّى).
وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ زُفَرَ فِي الرَّجُلِ يَتَوَضَّأُ: (أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَإِنْ أَصَابَ لِحْيَتَهُ مِنْ الْمَاءِ قَدْرَ ثُلُثِ أَوْ رُبُعِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ)، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: (يُجْزِيهِ إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ أَنْ لَا يَمَسَّ لِحْيَتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَاءِ).
وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ: (لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُهَا صَارَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ مِنْ الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ؛ إذْ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ، فَكَانَ الْوَاجِبُ مَسْحَهَا كَمَسْحِ الرَّأْسِ فَيَجْزِي مِنْهُ الرُّبُعُ كَمَا قَالُوا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا تَخْلُو اللِّحْيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ فَيَلْزَمَهُ غَسْلُهَا كَغَسْلِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ شَعْرٌ، وَأَنْ لَا تَكُونَ مِنْ الْوَجْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهَا وَلَا مَسْحُهَا بِالْآيَةِ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى سُقُوطِ غَسْلِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مِنْهُ لَوَجَبَ غَسْلُهَا، وَلَمَّا سَقَطَ غَسْلُهَا لَمْ يَجُزْ إيجَابُ مَسْحِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ زِيَادَةٍ فِي الْآيَةِ، كَمَا لَمْ يَجُزْ إيجَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي نَصِّ الْكِتَابِ.
وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ مَسْحُهَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ فَرْضِ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْوَجْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَجْتَمِعُ فَرْضُ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى يَدِهِ جَبَائِرُ فَيَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ بَاقِي الْعُضْوِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ، وَلَيْسَ فِي نَبَاتِ اللِّحْيَةِ ضَرُورَةٌ فِي تَرْكِ الْغَسْلِ، وَالْوَجْهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى طَهَارَتَهَا، فَلَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَقْتَضِي مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ سُقُوطِ فَرْضِ غَسْلِهَا وَمَسْحِهَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ إمْرَارَ الْمَاءِ عَلَيْهَا.
قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْيَدُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى هَذَا الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَمَّارًا تَيَمَّمَ إلَى الْمَنْكِبِ وَقَالَ: «تَيَمَّمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَنَاكِبِ» وَكَانَ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ هُوَ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الِاسْمَ لِلْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهَا إلَى الْمَنْكِبِ.
وَإِذَا كَانَ الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ التَّحْدِيدَ فَجَعَلَ الْمَرَافِقَ غَايَةً، كَانَ ذِكْرُهُ لَهَا لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَنْتَظِمُ الْمَرَافِقَ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا؛ إذْ لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى سُقُوطِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغَايَةَ لَمَّا كَانَتْ قَدْ تَدْخُلُ تَارَةً وَلَا تَدْخُلُ أُخْرَى، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي دَخَلَتْ الْغَايَةُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَوُجُودُ الطُّهْرِ شَرْطٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَقَالَ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَوُجُودُهُ شَرْطٌ فِيهِ، و«إلى» و(حَتَّى) جَمِيعًا لِلْغَايَةِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا تَدْخُلُ فِيهِ نَحْوَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} وَاللَّيْلُ خَارِجٌ مِنْهُ؛ فَلَمَّا كَانَ هَذَا هَكَذَا وَكَانَ الْحَدَثُ فِيهِ يَقِينًا لَمْ يَرْتَفِعْ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَهُوَ وُجُودُ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ؛ إذْ كَانَتْ الْغَايَةُ مَشْكُوكًا فِيهَا.
وَأَيْضًا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَلَغَ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَيْهِمَا» وَفَعَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى الْوُجُوبِ لِوُرُودِهِ مَوْرِدَ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إلَى الْمَرَافِقِ} لَمَّا احْتَمَلَ دُخُولَ الْمَرَافِقِ فِيهِ وَاحْتَمَلَ خُرُوجَهَا صَارَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ دُخُولِ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ هُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا، إلَّا زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّ الْمَرَافِقَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْوُضُوءِ؛ وَكَذَلِكَ الْكَعْبَانِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا: رُبُعُ الرَّأْسِ، وَالْأُخْرَى: مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَيَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ الرَّأْسِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: (يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْسِ).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: (يَمْسَحُ مُقَدَّمَ الرَّأْسِ).
وَقَالَ مَالِكٌ: (الْفَرْضُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَإِنْ تَرَكَ الْقَلِيلَ مِنْهُ جَازَ).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (الْفَرْضُ مَسْحُ بَعْضِ رَأْسِهِ).
وَلَمْ يَحُدَّ شَيْئًا.
وقَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} يَقْتَضِي مَسْحَ بَعْضِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي، فَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهَا عَلَى فَوَائِدَ مُضَمَّنَةٍ بِهَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ صِلَةً لِلْكَلَامِ وَتَكُونُ مُلْغَاةً، نَحْوَ «من» هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا التَّبْعِيضُ، ثُمَّ قَدْ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ وَتَكُونُ مُلْغَاةً وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ.
وَمَتَى أَمْكَنَنَا اسْتِعْمَالُهَا عَلَى وَجْهِ الْفَائِدَةِ وَمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْغَاؤُهَا، فَقُلْنَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهَا مُلْغَاةٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَنَّك إذَا قُلْت: (مَسَحْت يَدَيْ بِالْحَائِطِ) كَانَ مَعْقُولًا مَسْحُهَا بِبَعْضِهِ دُونَ جَمِيعِهِ، وَلَوْ قُلْت: (مَسَحْت الْحَائِطَ) كَانَ الْمَعْقُولُ مَسْحَهُ جَمِيعَهُ دُونَ بَعْضِهِ، فَقَدْ وَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ إدْخَالِ الْبَاءِ وَبَيْنَ إسْقَاطِهَا فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ؛ فَوَجَبَ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَنْ نَحْمِلَ قَوْلَهُ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} عَلَى الْبَعْضِ حَتَّى نَكُونَ قَدْ وَفَّيْنَا الْحَرْفَ حَظَّهُ مِنْ الْفَائِدَةِ وَأَنْ لَا نُسْقِطَهُ فَتَكُونَ مُلْغَاةً يَسْتَوِي دُخُولُهَا وَعَدَمُهَا.
وَالْبَاءُ وَإِنْ كَانَتْ تَدْخُلُ لِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِك: (كَتَبْت بِالْقَلَمِ) و(مَرَرْت بِزَيْدٍ) فَإِنَّ دُخُولَهَا لِلْإِلْصَاقِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا مَعَ ذَلِكَ لِلتَّبْعِيضِ فَنَسْتَعْمِلُ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْبَعْضِ الْمَفْرُوضِ طَهَارَتُهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدِّمٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِيهِ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} قَالَ: إذَا مَسَحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ، قَالَ: وَلَوْ كَانَتْ (امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ) كَانَ مَسْحُ الرَّأْسِ كُلِّهِ.
فَأَخْبَرَ إبْرَاهِيمُ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهَا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهَا التَّبْعِيضُ فِي الْآيَةِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْقَلِيلِ مِنْ الرَّأْسِ فِي الْمَسْحِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ، وَهَذَا هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ عَلَى التَّبْعِيضِ، وَقَوْلُ مُخَالِفِنَا بِإِيجَابِ مَسْحِ الْأَكْثَرِ لَا يَعْصِمُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلَّفْظِ عَلَى التَّبْعِيضِ، إلَّا أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارَ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي إثْبَاتِ الْمِقْدَارِ الَّذِي حَدَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ لَمَا جَازَ أَنْ تَقُولَ: (مَسَحْت بِرَأْسِي كُلِّهِ) كَمَا لَا تَقُولُ: (مَسَحْت بِبَعْضِ رَأْسِي كُلِّهِ).
قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَتَهَا وَمُقْتَضَاهَا إذَا أُطْلِقَتْ التَّبْعِيضُ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهَا مُلْغَاةً، فَإِذَا قَالَ: (مَسَحْت بِرَأْسِي كُلِّهِ) عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ مُلْغَاةً، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا، كَمَا أَنَّ «من» حَقِيقَتُهَا التَّبْعِيضُ وَقَدْ تُوجَدُ صِلَةٌ لِلْكَلَامِ فَتَكُونُ مُلْغَاةً فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} وَ{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وَلَا يَجِبُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ نَجْعَلَهَا مُلْغَاةً فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ.